زد على ذلك أن هذه الأحلام، إلى فصاحتها، كانت جميلة. لقد أغفل فرويد هذا الجانب في نظريته عن الأحلام. فالحلم ليس فقط بلاغاً (بلاغاً مرموزاً عند الاقتضاء) بل هو أيضاً نشاط جمالي ولعبة للخيال. وهذه اللعبة هي بحد ذاتها قيمة. فالحلم هو البرهان على أن التخيل وتصوّر ما ليس له وجود، هو إحدى الحاجات الأساسية للإنسان، وهنا يكمن أصل الخطر الخادع الكامن في الحلم. فلو أن الحلم ليس جميلاً، لأمكننا نسيانه بسهولة. لذلك، كانت تيريزا ترجع باستمرار إلى أحلامها وتعيدها في مخيلتها وتختلق منها أساطير. أمّا توماس فكان يعيش في كنف السحر المنوّم، سحر الجمال الأليم لأحلام تيريزا.
تذكر عندها أسطورة أفلاطون الشهيرة «المأدبة»: ففي السابق كان البشر مزدوجي الجنس فقسّمهم الله إلى أنصاف تهيم عبر العالم مفتشة بعضها عن بعض. الحب هو تلك الرغبة في إيجاد النصف الآخر المفقود من أنفسنا.
الوقت الإنساني لا يسير في شكل دائري بل يتقدم في خط مستقيم. من هنا، لا يمكن للإنسان أن يكون سعيداً لأن السعادة رغبة في التكرار.
لم يكونا متحدين بحنان إلَّا في الليل أثناء النوم. كانا يمسكان دائماً بأيديهما فتُنسى عندئذ الهاوية (هاوية ضوء النهار) التي كانت تفصل بينهما. ولكن هذه الليالي لم تكن تعطي توماس لا الوقت ولا الوسيلة لحمايتها والاعتناء بها. لذلك فهو عندما كان يراها في الصباح ينقبض قلبه ويرتجف خوفاً من أجلها: كانت تبدو حزينة ومتوعكة.
كان بإمكان آنّا أن تنهي حياتها بطريقة أخرى مختلفة تماماً. ولكن حافز المحطة والموت، هذا الحافز الذي لا يُنسى لاقترانه ببداية الحب، كان يجذبها في لحظات اليأس، بجماله القائم. فالإنسان ينسج حياته على غير علم منه وفقاً لقوانين الجمال حتى في لحظات اليأس الأكثر قتامة. لا يمكن إذاً أن يأخذ أحد على رواية افتتانها بالاتفاق الغامض للصدف. (مثلاً، تلاقي فرونسكي وآنّـا والرصيف والموت أو تلاقي بيتهوڤن وتوماس وتيريزا وكأس الكونياك). لكن يمكن أن يؤخذ بِحقٍّ على الإنسان حين يُعمي عينيه عن هذه الصدفْ فيحرم بالتالي حياته من بُعد الجمال.
في سفر التكوين، عهد الله إلى الإنسان بالسيادة على الحيوانات. وبإمكاننا أن نفسر ذلك قائلين إن الله قد أعار هذه السلطة له. الإنسان ليس مالك الكوكب بل وكيله وعليه ذات يوم أن يقدم كشفاً لحسابه. ديكارت ذهب أبعد من ذلك في هذا المنحى: جعل الإنسان «سيد الطبيعة ومالكها». وهو منطقي جداً بالتأكيد فيما يتعلق بنفيه لوجود الروح عند الحيوانات. فحسب ما يقول ديكارت، الإنسان هو المالك والسيد فيما الحيوان ليس إلا مسيّراً وآلة حية، أو ما يمسيه بال «ماشينا-أنيماتا». عندما يئن الحيوان فالأمر لا يتعلق بشكوى بل بصرير تطلقه آلة تسير بشكل سيئ. فحين تئز عجلة عربة فهذا لا يعني أن العربة تتألم بل لأنها تحتاج إلى تشحيم. وبالطريقة ذاتها يجب أن يُفسّر نحيب الحيوان. ويجب ألا نشفق على كلب يُشرَّح وهو حيّ في مختبر.